حينما نرى فاننا نحدد الشيء الذي نراه فان كان جيدا استطعنا أن نحسه و ان كان سيئا لا نكاد نتذكره من لحظة عند رؤينه فرؤيتنا هي التي تحدّد وتصنع العالم من حولنا، فنحن لا نعيش في نفس العالم لأن طرق رؤيتنا له مختلفة فكل شخص يرى الشيء حسب رؤيته هو الشخصية .. فقد أرى انا ورده حمراء و تعطي لي انطباع جميل و تذكرني بذكرى حلوة .. و قد يراها شخص أخر و تذكره بألم و معاناة و و و و ...
وهناك العديد والعديد من العوالم على قدر ما يوجد من ناس وأجناس، ومن هنا جاء التضارب والتعارض، النزاع والصراع.... في الحب، في الصداقة، في الحياة... لأنه لا يمكن لوِجهتي نظر أن تتّفقا.. إما أنْ تتداخلا وتتشابكا، أو تتصادما وتتعارضا... ويحاول كل منهما أن يؤثر في الآخر، ليُقنعه ويتحكم به...
حتى لدى الإنسان الواحد هناك نوعان من الرؤية، عينان أو ملاكان حارسان ... خير وشر، حب وقهر .. أنا و هو ... وهناك صراع كبير حول من سيربح، ومن سيبرهن أن وجهة نظره هي الأفضل والأصلح ... لكنك عندما تدخل إلى أعماق ذاتك ستجد العين الثالثة حيث ستلتقي عيناك في نقطة عميقة دقيقة ... هي البصيرة عين الحقيقة....
عيناك لا يمكن أن تلتقيان عندما تنظران خارجاً.. كلما نظرتَ بعيداً خارجك أصبحتا أبعد فأبعد، وكلما تمعّنتَ في داخلك أصبحتا أقرب فأقرب...
عندما تغمض عينيك فإنهما تصبحان عيناً واحدة هي العين الثالثة التي تهتم ببواطن الأشياء لا بظواهرها ... وهذه العين المُبصرة هي التي تستطيع قراءة كتاب الحقيقة كما هي.... إنها تبصر دون أن تحتاج للنظر، وهذه هي البصيرة وهي أمرٌ آخر غير البصر "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ? فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَ?كِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" الحج (46)...
هنا فقط حينما ترى بقلبك الذي في صدرك تتّحد ألوان قوس قزح السبعة من جديد بلون واحد هو الأبيض...
والبصيرة هي رؤية الماضي والمستقبل في الحاضر، في الآن، في هذه اللحظة... لأن قصة الشجرة مكتوبة بكاملها في البذرة...
و قصتك أنت مكتوبة كلها في عجب ذنبك ..
قال رجل للحبيب: أمّرني يا رسول الله، اجعلني أميراً على البَصْرة...
فقال له: البصْرة تزول.. أجعلكُ أميراً على بصيرتك التي لا تزول.....
لكن الناس مهتمّون بامتلاك عيون ورموش جميلة و بامتلاك نظارت أجمل و ماركات معروفة بدل أن يهتموا بامتلاك رؤية جميلة... و نظرات أوسع و أشمل
رؤية الله عز و جل الفرد الصمد في كل عدد، النور الخالد إلى الأبد والمتصل بك طول الأمد ...
وكُن جميلاً... ترى الوجود جميلا.... و الله جميل يحب الجمال ..
كل أمر مُمكن تاملك - رؤيتك بالبصيرة و اتصالك به و محبته لك ، لكننا لم نحاول أبداً الوصول الى ذالك ... لم ننظر أبداً لما هو كامن في دواخلنا ،لاننا ببساطة انشغلنا بالعيش و الخبز و العمل و الزواج و الاولاد و الامراض و نسينا خالق الافراد الرازق بلا حساب .. لم نُحوّل أو نحاول الدخول الى أعماق نفوسنا إلى ساكن فينا ... إلى واقع حقيقي فعليّ كائن... فبقيت العين الثالثة بذرة كامنة غافية مغمضة لأننا لم نحاول اغماض اعيننا لنرى بها .. فنحن نغمض اعيننا من التعب فقط لننام .. من تعب العمل و شقاء النهار و كان الانسان ولد ليشقى و يتعذب و هو الذي يصنع شقاؤه و عذابه بنفسه .
ليس على الحقيقية حجاب ولا باب فكل شيء تعيشه و تتعايش به مقدر بالاسباب " و جعلنا لكل شيء سببا "، فالشمس شارقة ساطعة و نورها يداعب جلدك ... لكننا نحن لم نعد نُبصر...
لقد أعمى الجهل بصرنا وبصيرتنا، ولم نعد نرى أبعد من أنوفنا أو اقل من ذالك ، ولا حلّ إلا بالتحوّل إلى الداخل، بالعودة إلى الصمت، إلى التأمل، والطرق كثيرة وعديدة الصمت اغمض عينيك بكل وعي و تفكر ... لقد خلقَ الخالق من طُرق بعدد ما خَلَقَ من خلْق...
التأمل هو النظر و ليس الرؤية "أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ "(17)الغاشية
النظر بتامل هو المفتاح العجيب الذي يفتح لنا أبواب النور والسرور و عوالم الحقيقة ، وعندها ستبدأ العين الثالثة بالنمو والانتعاش... ثم تزهر كزهرة معطّرة مطهّرة لتتغيّر حياتك كلها...
لن تعودَ الشخص ذاته على الإطلاق... ستصبح مختلفاً، حياً، مشتعلاً، وسيتغير العالم من حولك في كل مكان... مع أن كل شيء لا يزال كما هو فيما مضى من الزمان، ولكن لا شيء أبداً سيبقى كما هو بالنسبة لك بعد الآن...
لقد وصلتَ إلى الرؤية الأحديّة الموحّدة بعين الوحدة الواحدة.... عين اليقين والحكمة و المعرفة و العرفان ....
لكي تبدأ بالتأمل أغلق عينيك وابدأ بالنظر إلى الداخل في رحلتك الداخلية رحلة الحج من العقل الى القلب الى الروح الى اللاحدود ...
سيكون هذا أمراً صعباً في البداية، لأننا نسينا داخلنا وأهملناه ولكن عطشنا سيجعلنا نتلمّس الطريق رويداً رويداً...
لن تجد في البداية إلا الظلام الحالك، وهذا الأمر يشبه الدخول من مكان متوهج بنور الشمس الساطع إلى غرفة مظلمة... عندها لن ترى لعدة ثوانٍ، ثم تتعدّل رؤيتك شيئاً فشيئاً لتمتلئ الغرفة بالنور...
كذلك الأمر عندما تُبحر داخلياً... سيصبح كل شيء مظلماً عاتماً حتى زمنٍ معين، ولكن إذا ثابرتَ عليه والمثابرة ما هي إلا تأمل وتدبّر، وإذا صبَرتَ وواصلتَ البحث فإنك ستعثر يوماً ما على منبع طاقتك وحياتك ليضيء قلبك في عمق الظلام، وليعمّ نورٌ ساطع الألوان، ذو عظمة وجلال وإشراق لم يحلم به إنسان.....
إنْ لم تعرف الظلام فلن تعرف النور.... ولكن حالما تراه سيزهر قلبك وتتطهّر أعماقك.... ستطمئن ذاتك وتتفتّح مقاماتك كلها لارتشاف هذا النور السرمدي المضيء الأبعد من حياتك ومماتك....
تعليقات
إرسال تعليق